لم يكن اختيار لون الزي الخاص بالكراتيه عبثاً ، بل كان خيارٌ له مغزى هادف، وعنوان، ونهج حياة. واللون الأبيض هو رمز المحبة والسلام، وليس الإستسلام ، فقد اقتُبِس هذا اللون من تعريف الكراتيه، حيث عرّفه الرهبان باليد الطاهرة، والشق الأول من الكراتيه (كرا) يعني: قبة السماء الصافية، والمعنى الآخر هو: البياض الناصع الذي هو داخل عود البوص. وكان الناس قديماً وحديثاً يتخذون الحمامة البيضاء رمزاً للسلام، وكانوا يطلقونها في مناسبات السلام والمحبة. واتخذ الله جل في علاه من اللون الأبيض رمزاً للسلام، حيث قال في محكم تنزيله للنبي موسى عليه السلام: " واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء " ، كناية عن النقاء والطهارة. وقد تناقلت رمزية اللون الأبيض على ألسنة الناس في كثير من الأمثلة والمناسبات، مثل قولهم عن الطفل: صفحة بيضاء، أي أنه غير ملوث بخبث أو هموم، وقولهم في الإنسان السوي الطاهر.. فلانٌ قلبه أبيض وعندما يتصافى اثنان ويتصافحا يقولان.. " صافي يا لبن" لأن لون اللبن "أبيض". وكانت الراية البيضاء فاصلة بين الحرب والسلم. فكانت ترفع في الهدنة بين الجيوش المتناحرة. ودخل اللون الأبيض في عاداتنا وأعرافنا فاتخذنا منه دلالة على العفة والشرف. كأنْ تَلبس العروسُ ليلة زفافها بذلة العُرس البيضاء دلالة على عذريتها. وكان الطفل عندما يولد يُلف بالكوفلية البيضاء( قطعة القماش التي يلف بها الطفل) ويكفّن الميتَ بقماش أبيض بعد غسله أيضاً، إيماناً منا بمغفرة الله له.
في زمن كان خالياً من البارود لم تكن الكراتيه وليدة الصدفة. وإنما ولدت من رحم الحاجة الماسة وترعرعت في مهد المعابد البوذية، على أيدي الرهبان الذين نذروا حياتهم لخدمة الإنسانية. إيماناً منهم أن الإنسان يتكون من روحٍ وجسد. فوضعوا منهاجاً يُجسّد القوة الحقيقية. تُبنى على أساس الوحدة بينهما، ليصبح الإنسان قادراً على مكابدة الحياة وخوض غمار التحديات، التي يمكن أنْ تواجهه في حاضره ومستقبله. لذا.. فقد كان فن الكراتيه يُستخدم للدفاع عن الارض والكرامة والإنسان.
قبل آلاف السنين. أقبل الناس على تعلم فن الكراتيه، لبناء مجتمع قوي في فكره وروحه وجسده. حتى أصبح عندهم نهجَ حياة، ومنظومة مجتمعية، تتألف من فكر وعادات وتقاليد، تقوم على استراتيجيةٍ تربوية، ودستور ٍتُحكم البلاد من خلاله، للذود عن الحرية والكرامة، يحمل مبادئ إنسانية بحتة. وهي أن جميع البشر أخوة. فكان المحارب يُقحم في القتال وهو على يقينٍ أنه لا يحارب أخيه الإنسانَ. وإنما يقاتل الشرَّ الذي بداخله. ولم يكن يبادر في العنف. وإنما يرد على العنف الذي لا يمكن أن يُرد عليه إلا بالعنف. هدفه أن يطهِّر فطرة أخيه الإنسان من شوائب الجشع. وتهذيب شهوته التملكية، وتصويبها نحو حب البقاء الخالي من الأنانية. معلماً الآخرين أنّ حب الذات يأتي من حبك للناس، الذين هم جزء من مجتمع أنت جزء منه. لأن الانسان هو أخ الإنسان. لا يظلمه ولا يسفك دمه ولا يأكل ماله. وإنما يحبه ويحافظ عليه، لتبقى الدنيا نظيفةً جميلة ًعذبة، كعذوبة الماء، تَصلح للعيش . فاذا رضي الانسان بما قسمه الله له، عاش سعيداً بعيداً عن التناحر والتزاحر على زيف الحياة، بعيداً عن حقيقة السعادة التي تتمثل في حب الآخر، فكن أبيضا نقياً حريصاً على جمال مجتمعك. كن جميلاً كجمال الطبيعة في كل مواصفاتها وصفاتها، بصلبها ووسائلها، وحافظ على ألوان طيفها. واعلم أن جمالَها يكمن في كل لون فيها، وليس في التحيُّز إلى لونٍ دون الآخر. فكن كالشمس التي تحترق لتضيء. كن كالقمر، أنيسا في ظلمة الليل. كن كالشجر يُرمى بالحجر فيعطي الثمر. كن متسامحا نقياً طاهراً. لا تفكر إلا في خدمة البشرية.
لم تغير العولمة مقدرات الحياة فحسب. إنما نخرت معظم القيم الإنسانية، وحركتها إلكترونيا. علما أنّ التكنولوجيا الحديثة، تتناسب وسرعة رحلة الإنسان الحياتية في هذه الدنيا الزائلة لا محالة. فقد غيرت جميع مقدرات الحياة. فأصبحت المنافسةَ عليها دون حساب إلا للكسب المادي، دون الأخذ بعين الإعتبار للقيم الانسانية. فاصبحت الغاية تبرر الوسيلة. حتى أصبح الظلم منظماً لا يمت للإنسانية بصلة. تحكمها السياسة الخاصة، وليست العامة يسيرون ضمن المصالح المتبادلة تحت شعار (صديق اليوم عدو الغد وعدو الغد صديق اليوم). فتحولت مقدرات الارض لعدوٍ بعد أنْ كانت تخدم الانسان.
لقد طالت العولمةُ علم الكراتيه. حتى تحولت إلى تجارةٍ بين أصحاب رؤوس الأموال، وحتى بيْن الاساتذة أنفسهم. فأصبحت مجردَ رياضةٍ تشبهُ الرياضات الأخرى. فتغيرت كل قواعدها القتالية الحقيقية إلى أن تحولت إلى مجرد منافسة رياضية خالية من دروس البناء وصلابة الجسم، فأصبحت الدرجة والفوز في البطولة هما الهدف الأسمى للحصول على البرستيج والسمعة أمام المجتمع.
إذا كانت بدلة الكراتيه بيضاء. فحريٌّ على من يرتديها أن يتخد من لونها نهجاً حياتياً يليق بتاريخ هذه البذلة. سواء كان أستاذاً أم طالباً. فالأستاذ يتعين عليه أن يكون أميناً، وعلى قدر المسؤولية في قيادة طالبه، وأن يبقى نبعاً لا ينضب. أن يكون ذا علمٍ ومعرفة واسعتين، إضافة الى تمتعه بمستوى فني مميز. حتى يصل إلى مرتبة (الكاراتيكا) والأستذة. أما الطالبُ فيجب أنْ يكون مواظباً على دروسه متفانياً في حبه لعلمه وحب معلمه. ملتزماً في آداب الدوجو (مكان التدريب). محترماً أستاذه وزملائه داخل الدوجو وخارجها. مدركاً للفهم الصحيح لمعنى الرقىّ. فيرقى في درجته الفنية والأخلاقية والفكرية. فلا يتعالى ولا يستسلم لشهواته، ولا ينزلق في دنس الجحود، لا لمعلمه ولا لمن علّمه حرفاً أو حركة، سواء في علم الكراتيه أو سِواه من العلوم الحياتية الأخرى. فيحترم من هو أكبر منه ويتواضع لمن هو أصغر.
تعني كلمة مجتمع: التضافر والتجمع والتكتل والتكامل والتكافل. لأن جميع المجتمع دائرة متكاملة تبدأ من الفرد، لتصب في مصلحة العامة. كما قال الشاعر (الناس للناس من بدوٍ وحاضرة.. وبعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ. )
أعجبني مشهد شاهدته عبر التلفاز لطفل ياباني كان في متنزه، وكانت عدسة الكاميرا تراقبه وبيده قمامة وبقيت في يده.. يمشي بعيداً. حتى وصل إلى سلة المهملات، ورمى بالقمامة في تلك السلة. فسأله الصحفي.. لماذا لم ترمِ بالقمامة على الأرض، بدلاً من أن تُجهد نفسك وتذهب بعيداً..؟ فأجاب الطفل الصغير.. إذا رميت هذه المحرمة على الارض، فسوف يتسرب منها مواد كيماوية، قد تؤذي طبقة الأوزون. وبالتالي سوف تؤذي وطني الأرض. ولم يقل وطني اليابان. هذا إن دل على شيءٍ إنما يدل على أن ثقافة هذا المجتمع، تنص على أن جميع البشر أخوة. وحرصي على سلامة المجتمع الكوني، هو حرصي على سلامتي. وتطور أخي الانسان هو تطور لي.
لقد تسلل نور علم الكراتيه إلى بلادنا فلسطين في بداية السبعينات من القرن العشرين. وبدأت، أنا وزملائي من الرعيل الثاني في بداية الثمانينات. وكان عمر الرعيل الأول في علم الكراتيه ما يقارب العشر سنوات أو يزيد. وكنا وما زلنا نُكِنُّ لهم كل الاحترام والتقدير. لكن.. للأسف، بعض الأساتذة عزّ عليهم أن يكون من هم أصغرمنهم سناً أن يرتقوا لمستوى مثلهم، أو أعلى منهم، سواء في المعرفة العلمية أو الفنية، أو العلاقات الداخلية والخارجية، أو حتى إنكار زملائهم الذين هم رفقاء دربهم الرياضي الشائك، في بلدٍ محتل (فلسطين) .علماً أن الأجنبي يقدّر ويثمن نجاحات أبناء هذا الشعب المعطاء رغم معاناته من قبل الإحتلال. ونسينا أنّ كل نجاح لأي فردٍ في هذا البلد الغالي هو نجاح للبلد، الذي هو أغلى وأهم من الفرد. فإنكار الآخر يعود بنا إلى الوراء. والأخذ بيد الناجح يؤول بنا إلى الوصول للصدارة، بعيداً عن الحسد والمناكفات البائسة، والبعد كل البعد عن النقد الهدّام، والرّدح، الذي لا يليق بحملةِ رسالةٍ نبيلة أهيب بجميع الأخوة الزملاء، أن يتصالحوا مع أنفسهم، وتطهيرها من كل شائبة يمكن أنْ تعود بنا إلى الوراء، والتقيد بنهج الكراتيه الحقيقي، لننقل هذه الرسالة لطلابنا ومجتمعنا، بكل صدقٍ وأمانة، وأن نتذكر دائماً أن بدلة الكراتيه بيضاء، لا يجوز لنا أن نُدخل عليها أي راية، بل العكس، أن نُدخل اللون الأبيض، على كل راياتنا وكل أطيافنا الوطنية والدينية، وندرك أن وحدة الصف هي مصلحة وطنية وإنسانية..